علم الاجرام من حيث المفهوم والدلالة
من أجل الوقوف على ماهية علم الاجرام سوف نقوم بتعريفه وتحديد طبيعته ومختلف النقاشات العلمية التي أثيرت بشأنه.
![]() |
علم الإجرام من حيث المفهوم والدلالة |
بالرجوع إلى الكتابات التي تناولت علم الإجرام، نجدها تجمع على صعوبة إعطاء تعريف جامع لهذا العلم وذلك راجع لعدة أسباب نجملها في ثلاثة.
- السبب الأول: أن علم الإجرام هو نسبيا حديث العهد، ولازال في التبلور والتشكل وبالتالي فأي محاولة تتصدى لتعريفه تكون ستكون صعبة.
- أما السبب الثاني: تداخل علم الإجرام مع علوم أخرى، لاسيما الجنائية منها وكيفية تدبير موقفها من المجرم والجريمة.
- السبب الثالث: فهو التطور الحاصل في الظاهرة الإجرامية نفسها، لأنها تمتطي ركب العصر وتأخذ أبعادها بحسب التغيرات التي تغدي تطور ظهور الجرائم.
من أجل الالمام بعلم الإجرام، فإننا سوف نعرض لبعض التعريفات التي تناولته، ومحاولة الوقوف عند دلالته، وتحديد خصائصه حتى يمكن تمثل هذا العلم من خلال تمظهراته وموضوعاته.
ما هو علم الإجرام؟
إن أول صعوبة تعتري إعطاء تعريف دقيق لعلم الإجرام هو الزاوية التي ينظر منها إلى الجريمة، بين من يعتبرها ظاهرة إجرامية وبين من ينظر إليها كظاهرة قانونية.
- وقد عرفها "بينتيل PINATEL" بقوله: " تسمى جريمة كل عمل معاقب عليه وتتخد من هذه الجريمة موضوعا لعلم خاص نسميه علم الإجرام".
- عرفه "الليوطيLEAUTI" بقوله: هو "البحث العلمي في ظاهرة الإجرام".
- في حين يعرفه "سيلك SEELIG" بقوله أن: "علم الإجرام هو ببساطة علم الجريمة".
فمن خلال التعريف أعلاه أنها اكتست في مقاربتها لعلم الإجرام البعد القانوني للجريمة، والتي ترى فيها أنها سلوكا شاذا ومنحرفا خارجا عن القاعدة القانونية التي يستوجب العقاب والزجر.
فعلم الإجرام بهذا المعنى لا يتجاوز الحد الضيق الذي تنظر منه إلى الجريمة، التي هي موضوع لعلم الإجرام، و أحد مباحثه، إضافة إلى المجرم يكونو معاه هذه التعريف وبالرغم من أن علميتها قاصرة في إعطاء تعريف شامل هذا العلم.
وقد آنبرت محاولات أخرى حاولت مقاربة علم الإجرام من زاوية نظر اجتماعية. فعرفه العالمان "لنيلا لافاسطينLAIGNELLA STINE" و"سطانسي ET STANGU" بقولهما أن: علم الإجرام هو بحث عام شامل للإنسان بهدف معرفة العوامل التي أدت إلى الإخلال بالنظام العام وإيجاد العلاج لها.
وفي نفس الأن يرى البعض بأن علم الإجرام هو فرع من العلوم الجنائية يروم البحث في الجريمة، باعتبارها ظاهرة تهم الفرد والمجتمع على حد سواء، وذلك من أجل الوصول والوقوف على الأسباب التي أدت إلى ارتكابها مع تحديدها وتفسير آثارها.
ويتضح لنا أن هذا الاتجاه الثاني ينظر إلى علم الإجرام من زاوية نظره للجريمة كظاهرة إجتماعية بحيث تجاوز الإتجاه الأول بتركيزه على المجرم من خلال الوقوف على الأسباب التي تؤدي بالفرد إلى الخروج من العقد الاجتماعي. ودراسة هذه الأسباب والعوامل التي أخذت بالنظام العام للمجتمع بهدف إيجاد حلول علاجية لها.
والواقع أن بحث علم الإجرام يجب أن ينصرف إلى كل من الفاعل والموضوع على حد سواء، أي إلى المجرم والجريمة بإعتبار هذه الأخيرة فعل غير طبيعي لسلوك شاذ صادر عن المجرم.
فإذا كانت دراسة السلوك تمثل العوامل الخارجية والمؤثرة والمنتجة للجريمة، فإن دراسة الفاعل تتم عن الوقوف عند العوامل الداخلية أي العوامل الكامنة في ذات المجرم، والتي تمثل الأسباب الدافعة إلى الإجرام مما يكون معه دراسة الجانبين مهمة جدا، وذلك من أجل إعطاء الظاهرة الإجرامية بعدا بنيويا وشموليا.
لا محالة سوف يؤثر سلبا في إعطاء تعريف محدد ومضبوط لعلم الإجرام، ولأن موضوعاته في نظرنا هي كل لا يتجزأ، وبالتالي، فإنه يجب أن ينصب البحث والدراسة على الجريمة والمجرم على حد سواء.
وهناك اتجاه تالث نظر إلى علم الإجرام من خلال النظر إلى الجريمة. فيرى كل من "استيفاني". و"لوفيسيور" و"مارلان" أن علم الإجرام، هو العلم الذي يبحث في أسباب الإجرام الذي يبحث في الإجرام للبحث عن أسبابه ومكوناته وسياقه ونتائجه.
ويرى "رامسيس بنهام" أن علم الإجرام هو: "العلم الذي يدرس الجريمة كحقيقة واقعية توصل إلى أسبابها وبواعثها عضوية كانت وبيئية، بغية الوقوف على أنجع أسلوب في التوقي منها، وفي علاج فاعلها، لكي لا يعود إليها من جديد.
من خلال هذا الاتجاه الثالث يتضح أنه قد صب نظره على الأسباب المؤدية إلى ارتكاب الجريمة، وهي التي يجب أن تكون موضوع علم الإجرام الذي ينبغي أن ينصب على معرفة لبواعث المؤدية إلى إنتاج السلوكات المنحرفة. والتس قد تكون عضوية كامنة في المجرم أو بيئية، من خلال الوقوف على الظروف الطبيعية المحيطة به.
وكل ذلك من أجل الوصول إلى طبيعة نوع الأسباب المؤثرة بهدف دراستها. والوصول إلى الوسائل الناجعة للوقاية من الجريمة، مع إيجاد أسلوب فعال في علاج مرتكبيها حتى لا يعود إليها.
ويتبين لنا من خلال التعريف السالف ذكرها مجتمعة والتي أوردناه أعلاه، أنها تفرقت بين من ينظر إلى الجريمة كواقعة قانونية. وبالتالي، فإن علم الإجرام ينصب على الأفعال الإجرامية التي جرمها القانون، متاثرا في ذلك بقاعدة." لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"، علما أن الأفعال الإجرامية، اذا كانت محددة في نظر المشرع الجنائي فإنه يصعب تحديدها وتأطيرها كظاهرة إجرامية.
في حين أن الإتجاه الإجتماعي كان أشمل في يتصوره من الاتجاه الأول. فاعتبربأن الأفعال الماسة بالنظام الاجتماعي والمحدثة اضطرابا في بنياته، تعتبر أفعال إجرامية.
وبالتالي فإن معيار التفرقة بين هذين الاتجاهين هو:
- أن الاتجاه الأول يعتمد معيار النسبية الذي يرى أن الأفعال المجرمة هي التي وقعت التنصيص عليها في مجموعة القانون الجنائي.
- في حين يرى الإتجاه الثاني أن المعيار هو الضرر الذي يحدثه السلوك في المجتمع، وما ينتجه من اضطراب اجتماعي.
من خلال الاختلاف بين هذه الاتجاهانلاحظ أن مرده بالأساس إلى الاختلاف في الرؤى وفي المشارب العلمية، كما يرجع إلى طبيعة علم الإجرام الذي لا زال حديث العهد نسبيا، ولا زالت نظريته في التبلور والتكوين.
كما أن تحديد ماهيته هذا العلم محكوم بالمفهوم الذي يتم واعتماده والذي يتأرجح بين المفهوم القانوني والمفهوم الإجتماعي، مما جعل البعض يصعب عليه تعريف الجريمة.وامتنع عن ذلك صراحة، كما ذهب إلى ذلك العالم الجنائي "اتيان دوغرف DEGREF" بقوله:
"إنني امتنع عن إعطاء تعريف للجريمة، إذ أعتقد أنه يتوجب علينا الآن اعتماد التعريف القانوني المعطى لها. لأن هذا التعريف ليس إلا وصفا دقيقا لواقع موجود قبل القانون وهذا الواقع هو الإجرام".
وفي نظرنا وتقديرنا، فإنه من خلال الإطلاع والدراسة المتأنية للتعاريف التي أوردناها أعلاه وغيرها من المفاهيم التي وقفنا عليها بصدد البحث في ماهية علم الإجرام، فإننا نرى بأن علم الإجرام هو العلم الذي يتخذ من السلوك الإجرامي الضار بالمجتمع، ومن خلاله الظاهرة الإجرامية موضوعا له بالبحث في الأسباب والعوامل الكامنة وراء ذلك بهدف مقاومتها والقضاء عليها.
طبيعة علم الاجرام
تبعا لحداثة علم الاجرام واختلاف مناهجه في تفسير الظاهرة الإجرامية فقد اختلفت الرؤى حول طبيعته العلمية ذهب جانب من الفقه الى اعتباره علما قائم الذات لأنه يقوم على المنهج العلمي في بحث الظاهرة الإجرامية من حيث أسبابها ودوافعها.
في حين انكر فريق ثان صفة العلم على الدراسات الإجرامية بنسبة نتائجها بل إن هناك من انكر وجوده أصلا ونظر الية باعتباره فرعا من فروع علوم اخرى.
1- الاتجاه المؤيد لعلمية الدراسات الاجرامية
اتجه اغلب العلماء الى إضفاء الصفة العلمية على علم الاجرام منطلقين من ان العلم هو كل معرفه تعتمد اتباع المنهج العلمي اختباري معيار التفرقة بين الطبيعة العلمية للعلوم الانسانية والطبيعة العلمية للعلوم الطبيعية، مقياس علمية الدراسات التي تجرى في الرياضيات او العلوم الطبيعية او الكيمياء تختلف لا محاله عن المقياس الذي يتبع في الحكم على الدراسات التي تجرى على المجتمع الذي يعتبر من اعقد الظواهر على الاطلاق، لأنه ليس كائنا واحدا وانما كتلة هائلة من الكائنات وعلى الانسان ذو تركيبة الغامضة المليئة بالألغاز.
فما يميز الدراسة الاجرامية انها:
- تمزج بين البعدين الانساني والاجتماعي
- وتحاول جاهده اكتساب المعرفة والوصول الى تفسير الظاهرة الاجرامية باتباع المنهج العلمي.
فلا غرو إذن البدء بتتبع وتسجيل الوقائع ومحاولة تفسيرها ثم اختيار النتائج المتوصل اليها عن طريق الملاحظة والمقارنة والتحليل من اجل الوصول الى تفسير معقول في صورة قواعد لها صفة الموضوعية في حاله تماثل وانتظام الحقائق.
تلك القواعد تظل خاضعه للاختبار المستمر على ضوء الابحاث والدراسات اللاحقة واعتمادها او رفضها او تطويعها من اجل الاستجابة مع الحقائق المنكشفة.
ويرى انصار هذا الراي تماشيا مع منطق ارسطو بانه:
"ليس هناك علم الا حين نعرف أن الاشياء التي نتناولها لا يمكن ان تكون شيئا اخر، ونؤمن كذلك بأن العمومية واليقين هم الدعامة اللتان تشكلان الخصائص الذاتية للعلم، فتعقد الظاهرة الاجرامية وطبيعة تركيب اسبابها يحول دون الوصول الى اليقين في قواعدها الذي يبقى إمر نسبيا".
اما بالنسبة للعمومية فهي كذلك تبقى نسبية لأن علم الاجرام لا ينصب على وقائع متجانسة بل ينصب على الظاهرة الاجرامية التي تأخذ ابعادا ومظهرات بحسب المجرم ذاته.
ان دراسات علم الاجرام تتميز بما يسمى باليقين التقريبي، وهي خاصية تلتقي فيها مع العلوم الانسانية او الاجتماعية التي تتميز بنسبة نتائجها مقارنه مع اليقين الذي يطبع مجال العلوم الطبيعية ذات الطابع التجريبي.
وبناء على ذلك يذهب هذا الاتجاه الى انه:
لا يمكن نزع صفه العلمية عن علم الاجرام لمجرد انه إلا :
- مجموعة من الافتراضات التي توجد دون امكانية تفسيرها او ايجاد حلول لها
- أو لأنه عبارة عن وقائع مجمعة يتم دراستها دون منهج علمي
فهو لا زال في مراحله وبداياته الأولى التي تتميز بنظره الوصفية هو لا زال في التبلور للوصول الى مرحله الدقيقة اي النظرة التركيبية التي تسعى الى تجميع المعارف المتاحة واخضاعها للعقل في سبيل الوصول الى القانون الذي يحكم الظاهرة.
2- الاتجاه المنكر لعلمية علم الاجرام
ذهب فريق من العلماء الى انكار الصفة العلمية على علم الاجرام وتفرق هذا الاتجاه الى فريقين:
- احدهما ذهب الى حد القول بان علم الاجرام ليس علما وانما هو جزء من علم اخر.
- في حين ذهبت الفريق الثاني الى الاعتراف بوجوده مع انكار طابعه العلمي.
1) اتجاه المنكر لوجود لعلم الاجرام
ذهب هذا الاتجاه الى إنكار وجود علم الاجرام أصلا واعتبره جزءا من علم اخر مستندا بالقول: "ان العلوم التي تبحث في الظاهرة الاجرامية تنحصر في علم الانثروبولوجيا الجنائية النفس الجنائي والامراض النفسية والعقلية وعلم الاجتماع الجنائي".
في حين يعتبر آخرون من نفس الاتجاه أن الدراسات الاجرامية "تعتبر جزءا من علم الطب الشرعي أو علم الامراض النفسية والعقلية".
لذلك يرى هذا الاتجاه من العلماء ان علم الاجرام ليس علما قائم الذات وإنما هو جزء من علم اخر لأنه لا يتمتع بكيان ذاتي مستقل بل يصطلح عليه مجمع لعده اجزاء من علوم اخرى، فهو بهذا المعنى مزيج مركب من عدة عناصر مختلفة تنتجها الابحاث والنتائج التي توصلت اليها عده علوم اخرى.
واذا كانت عناصر هذا المركب متباينة وغير متصفه فان النتائج المستخلصة سوف تكون بالنتيجة غير متجانسه لذلك فضلوا تسمية علم الاجرام بـ"دراسات حول شخصية المجرم" باعتبار انها مجرد ابحاث تضم دراسات تقدمها الانتروبولوجيا الجنائية حول المجرم من الناحية العضوية والتكوينية، وعلم النفس الجنائي من الناحية النفسية وعلم الاجتماع حول الظروف البيئية.
وحسب رأينا فإن ان هذا الرأي لا يصادف الصواب لأن الدراسات العلمية تفقد استقلالها وطابعها العلمي بمجرد اشتراكها مع علوم اخرى، وإن تمحورت حول نفس الموضوع، لأن لكل علم خاصيته والزاوية التي ينظر منها الى الاشياء والظواهر.
وبالتالي فان استفادة العلوم من نتائج بعضها البعض يزيد في عملية مناهجها ويمنحها مرونة أكبر في التعامل مع الظواهر، وهو الشيء الذي يستفاد من دراسة الظاهرة الاجرامية التي تمتاز بالتشعب والتعقيد وان استفادة علم الاجرام من العلوم الاخرى لا يمكن ان يجرده من الصفة العلمية بل انه يقومها ويزيدها في متانتها.
الى ان القول بان علم الاجرام يجمع بين عناصر متباينه مما يؤدي به الى نتائج غير متجانسة هو قول مجانب للصواب لان مهمة علم الاجرام تروم الى التنسيق بين هذه النتائج مجتمعة.
2) اتجاه يعترف بوجود علم الاجرام مع انكار طابعه العلمي
هذا الاتجاه ينطلق من كون الظاهرة الاجرامية ظاهرة متحركة لا تعريف والاستقرار فمن يعتبر في وقت ما جريمة لا يعتبر كذلك في وقت اخر، وما يعتبر في مكان ما جريمة لا يعد كذلك في مكان اخر فكيف يمكن وضع قانون عالمي وثابت يحكم الظاهرة الاجرامية؟
موقف يعتريه قصور في الرؤيا لان الدراسات الاجرامية لا تنصب فقط على الجريمة التي تبقى غير متجانسه ولا تدور حول مفرداتها.
بل تنصب على السلوك الاجرامي الذي يمثل موقف الفرد من القاعدة الجنائية متى فرقها بصرف النظر عن الافعال الاجرامية التي تشكل هذا السلوك.
فالسلوك الاجرامي واحد لا يتغير يتجه الى خرق القاعدة القانونية وهو الذي يمكن أن تجري علية الدراسة العلمية وبالتالي يمكن ادراك القانون العلمي والثابت الذي يحكمه.
ان علم الاجرام ينصب على الظاهرة الاجرامية ليس في بعدها المتعلق بالجريمة فقط بل يتجاوزها الى شخص مجرم والاسباب التي أدت به الى ارتكاب الظاهرة الاجرامية.
بهذا المعنى اذا حقيقة موضوعية تتشكل من مجموعة من الوقائع قابلة للملاحظة وليست مجرد فكره قانونية تختلف حسب الأزمنة والأمكنة وهي بذلك اي الظاهرة الاجرامية تسم بالعمومية وظاهرة قابلة للتحليل لتشكلها من عناصر فردية بيولوجية نفسية وعناصر اجتماعية.